يوسف كنجو
اكتشف فريق من العلماء من بغداد وميونيخ نصًا أدبيًا عمره ثلاثة آلاف عام لم يكن معروفًا من قبل. يتعلق الأمر بقصيدة كاملة عن بابل. كيف أمكن ذلك؟ إليكم خلفيات القصة
شكّل ابتكار الكتابة المسمارية نحو عام 3200 قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين علامة فارقة في تاريخ البشرية، إذ قسّم تاريخ الإنسان إلى مرحلتين: عصور ما قبل التاريخ التي خلت من الكتابة، والعصور التاريخية التي شهدت ظهورها
في القرن التاسع عشر نجح الباحثون لأول مرة في فك رموز هذه الكتابة. ومنذ ذلك الحين جرى اكتشاف مئات الآلاف من الألواح المسمارية في مكتبات المدن القديمة، مثل تلك الموجودة في العراق وسوريا. تحمل هذه الألواح نصوصًا أدبية وثقافية وقوانين وعقودًا تجارية وأساطير وموضوعات أخرى
لكن، خلافًا لبعض أنماط الكتابة القديمة الأخرى، تبقى المسمارية صعبة للغاية في الترجمة، ولم يُنقل إلى اللغات الحديثة سوى جزء ضئيل منها، ويرجع ذلك إلى النقص الكبير في عدد المتخصصين القادرين على قراءتها. لهذا السبب يسعى علماء الآثار منذ بضع سنوات إلى الاستعانة بالذكاء الاصطناعي لفك رموز هذه النصوص وفهم محتواها، من خلال إنشاء أرشيف دولي رقمي خاص
مكتبات الرقم المسمارية القديمة
حتى اليوم اكتُشفت العديد من المكتبات العريقة التي تضم آلاف الألواح المسمارية. من أبرزها مكتبة ماري على نهر الفرات شرق سوريا، التي تحتوي على نحو 25 ألف لوح يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ومكتبة إيبلا جنوب حلب التي تضم حوالى 17 ألف نص من نحو عام 2300 قبل الميلاد
أما أضخم هذه المكتبات فظهرت في العراق، ومنها مكتبة آشوربانيبال في نينوى (الموصل) التي تحوي نحو 30 ألف لوح طيني من القرن السابع قبل الميلاد، ومكتبة مدينة بابل القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد. عُثر في هذه المكتبات على ألواح مكتوبة بالخط المسماري في حالات مختلفة: بعضها سليم بالكامل، وبعضها مكسور أو متضرر بشدة. وقد سُطرت النصوص بمزيج من اللغات واللهجات مثل السومرية والأكادية والبابلية والآشورية والإبلائية، ما يجعل ترجمتها مهمة معقدة
يُقدَّر عدد الألواح المسمارية المكتشفة حتى الآن بنحو نصف مليون لوح، لكن ما تُرجم منها لا يتجاوز عشرة في المئة، ما يعني أن كنزًا هائلًا من المعارف عن حضارات بلاد ما بين النهرين ما زال ينتظر الكشف

إنجازات الذكاء الاصطناعي: أنشودة بابل
بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، نجح فريق من الباحثين من العراق (جامعة بغداد) وألمانيا (جامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونيخ) في تجميع عشرات الشظايا المتناثرة من الألواح الطينية، ليعيدوا تشكيل ترنيمة تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد تقريبًا. كُتبت هذه القصيدة، المؤلَّفة من نحو 250 بيتًا، في مدينة سيبار شمال بابل باللغة الأكدية
يوضح أحد باحثي معهد الآشوريات في جامعة لودفيغ ماكسيميليان أن “قاعدة بيانات مدعومة بالذكاء الاصطناعي مكّنتنا من تحديد ثلاثين نصًا آخر ينتمي إلى الترنيمة المكتشفة، وهي مهمة كان إنجازها سيستغرق عقودًا في السابق”. وبفضل هذه النصوص الإضافية استطاع الفريق استكمال القصيدة التي كانت ألواحها تعاني فجوات كبيرة. يقدّم النشيد المكتمل وصفًا أدبيًا لمدينة بابل، أكبر مدن العالم في ذلك العصر، وما يحيط بها في ذروة ازدهارها، ويمتدح نهر الفرات ويرسم لوحة شاملة لحياة سكانها – رجالًا ونساءً – ومعتقداتهم الدينية قبل نحو ثلاثة آلاف عام. تشير الدلائل إلى أن هذه الترنيمة، المعروفة اليوم باسم «أنشودة بابل»، نُسخت ودُرّست لأكثر من ألف عام، في دور أشبه بما يشغله النشيد الوطني في زمننا. ومن المدهش أن نصًا بهذه الشعبية ظل مجهولًا حتى العصر الحديث
ويشرح البروفيسور إنريكي خيمينيز، رئيس المشروع: يبدو أن مؤلِّف النشيد كان بابليًا أراد تمجيد مدينته؛ فهو يصف مبانيها، ويتحدث أيضًا عن الفرات الذي يجلب الربيع والحقول الخضراء. وهذا أمر مدهش، إذ لم يصلنا من بلاد الرافدين سوى أوصاف قليلة للطبيعة
اكتشافات جديدة حول دور المرأة في الحضارة القديمة
يكشف النشيد معلومات مهمة عن نساء بابل ودورهن ككاهنات يرسخن الطهارة الطقسية ويقدمن التعليم. وقد فاجأت هذه المهام الباحثين، إذ لم تُذكر من قبل في أي نصوص أخرى. كما يقدّم النشيد صورة غنية عن التعايش في المجتمع الحضري، واصفًا سكان المدينة بأنهم يبدون احترامًا واضحًا للأجانب
من اللافت أن الكتابة المسمارية وُلدت في الشرق قبل نحو ثلاثة آلاف عام، ثم اندثرت مع مرور الزمن، قبل أن يتمكّن علماء من الشرق والغرب من فك شفرتها. ورغم التقدم التكنولوجي الهائل في شتى المجالات، ما زالت أسرار كثيرة من حضارات الماضي مجهولة بانتظار من يكشفها. وفي المقابل يفتح التعاون بين العلماء من الشرق والغرب، مدعومًا بأدوات الذكاء الاصطناعي، آفاقًا واسعة لاستكشاف المزيد من خبايا الماضي وإضاءة جوانب جديدة من تاريخ البشرية
في هذا الفيديو يقرأ إنريكي خيمينيز جزءًا من الترنيمة بلغتها الأصلية، ويشرح مع الباحث العراقي أنمار فاضل معناها وأهميتها حتى اليوم
YouTube | LMU München: Hymne an Babylon entdeckt
لمزيد من المعلومات حول المشروع
LMU | Hymne an Babylon entdeckt
tun25081904