يوسف كنجو
لا نعرف متى طورت البشرية الأفكار والممارسات الدينية. كما أننا لا نعرف متى بُنيت أولى المنازل وحتى المعابد لإقامة الشعائر الدينية. ومع ذلك، فقد كشفت الحفريات الأثرية عن أقدم هياكل بناء كبيرة جدًا حتى الآن، حيث كان الناس يؤدون فيها طقوسًا تتعلق بعقيدتهم قبل 12,000 سنة على الأقل. أحد أهم هذه المواقع الأثرية هو موقع غوبكلي تبه بالقرب من مدينة شانتلي أورفا جنوب شرق تركيا، بالقرب من الحدود السورية. وتعتبر هذه الحفريات واحدة من أعظم الاكتشافات الأثرية في العصر الحديث.
غوبكلي تبه ، يعود تاريخه الى 12,000 عام قبل الان
يقع موقع جوبكلي تبه (الاسم التركي يعني التل المنتفخ) على قمة جبل مرتفع يطل على السهول المحيطة به. ويتميز بتصميم معماري معقد وأعمدة حجرية ضخمة (نصب)، عليها زخارف على شكل صور حيوانات ورموز. وقد كشفت الحفريات الأثرية حتى الآن عن ستة مبانٍ دائرية كبيرة ذات جدران حجرية لا تزال محفوظة حتى الآن، ويبلغ قطر كل منها من عشرة إلى ثلاثين متراً. ومع ذلك، تشير الحفريات والدراسات إلى وجود ما يصل إلى عشرين مبنى آخر مايزال مدفون تحت الأرض. ويغطي موقع الحفريات مساحة تبلغ حوالي 300 متر مربع، ولا يزال جزء كبير منها غير مستكشف. يحتوي كل مبنى على صف من الأعمدة على شكل حرف T. ويوجد ما يصل إلى اثني عشر عموداً داخل الجدران الدائرية، يوجد عمودين في الوسط. وعادة ما تكون هذه الأعمدة مزينة بنقوش لحيوانات برية مثل الثعابين والأسود والعقارب والطيور والغزلان. يتراوح ارتفاع الأعمدة بين 2.5 و4 أمتار.
بدأ العمل الميداني الأثري في الموقع عام 1995 بالتعاون بين متحف شانلي أورفا والمعهد الأثري الألماني (DAI) – حيث كان هارالد هوبتمان مديراً للمشروع وكلاوس شميدت مديراً ميدانياً. أصبح كلاوس شميت فيما بعد مديراً للحفريات، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته في عام 2014. بعد ذلك، عادت الإدارة إلى المتحف حتى اليوم، حيث يعمل لي كلير من معهد DAI كمنسق للبحث الأثري.
أول مبانٍ أثرية قديمة جدا وفريدة من نوعها
يعود تاريخ غوبكلي تبه إلى العصر الحجري الحديث وقد استوطن لمدة زمنية تقدر بـ 1500 عام. كان سكان الموقع من الصيادين وجامعي الثمار. بالإضافة إلى غوبيكلي، هناك مواقع أثرية أخرى مماثلة في منطقة أورفا، مثل كاراهان تبه وسايبورش. ولكن لا توجد ثقافة مماثلة في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر في العالم. ويبدو أن هذه الثقافة فريدة من نوعها، حيث لم تظهر مثل هذه الهياكل الحجرية الضخمة مرة أخرى إلا بعد حوالي خمسة آلاف سنة. وهذا ما يجعل غوبكلي تبه قابلة للمقارنة من حيث الأهمية مع ستونهنج في إنجلترا والأهرامات المصرية، ولكنه أقدم بكثير

الطقوس الدينية والاجتماعية
إن الدلائل الرئيسية على موقعها كمركز ديني هي المباني الدائرية الكبيرة والأعمدة على شكل حرف T ، التي عليها نقوش برموز دينية أو طوطمية. لا يوجد أي دليل على وجود أنشطة يومية في هذه المباني الرئيسية، مما يعني أنها لم تكن مخصصة للأغراض السكنية بل للطقوس. ولذلك كانت مكاناً يجتمع فيه الناس من مناطق بعيدة لأداء الطقوس المتعلقة بالموت والحياة. وربما كانت هناك طقوس مثل الغناء والرقص وتقديم القرابين الحيوانية. كما أن الرموز الموجودة على الأعمدة لم يتم توضيحها بعد، ولكنها قد تكون مرتبطة بالأساطير والمعتقدات
تُظهر المكتشفات الأثرية في غوبكلي تبه أن الدين أو الطقوس الجماعية سبقت الاستيطان الزراعي، مما يعني أنها كانت مركزًا دينيًا أو طقسيًا لمجتمعات الصيادين والمجموعات البشرية المبكرة. وهذا يغير فهم تطور الحضارة: فقد كان يُفترض سابقًا أن الزراعة كانت القوة الدافعة الرئيسية وراء تشكيل المجتمعات المعقدة، والتي لم تظهر إلا في أوائل الألفية الرابعة قبل الميلاد. ومع ذلك، فإن التصميم الضخم لجوبكلي تبه يشير إلى درجة عالية من التنظيم الاجتماعي والتعاون الجماعي حتى في الأيام الأولى من تاريخ البشرية، حيث كان هناك بالتأكيد مئات العمال المطلوبين لبناء الموقع.
عُقد المؤتمر الدولي للعصر الحجري الحديث في أورفا في الفترة من 4 إلى 8 نوفمبر 2024، وحضره حوالي 900 باحث من جميع أنحاء العالم. كان الهدف الرئيسي هو تقديم أهم نتائج الدراسات حول العصر الحجري الحديث، ولا سيما أحدث الدراسات في منطقة أورفا التي تركز على موقع غوبكلي تبه.
مزيد من المعلومات على
https://worldneolithiccongress.org/
فيديو عن التنقيب في غوبكلي تبه
https://www.youtube.com/watch?v=lAeQcAawVUA
tun25020305