بقلم سمير إبراهيم
يُعتبر 16 مارس 1988 بالنسبة للأكراد في شمال العراق تاريخًا صادمًا لا يزال عالقًا في الذاكرة الجماعية. ففي إطار الحرب التي استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران (1980 إلى 1988)، شنت نظام صدام حسين في ذلك اليوم، وسط ربيعٍ تزهر فيه الأزهار ويسود الهدوء في الجو، هجومًا كيميائيًا على مدينة حلبجة الكردية. كانت المواد السامة المستخدمة في الهجوم تحتوي من بين أمور أخرى على غاز الخردل والسيانيد. وكانت الشوارع مفروشة بجثث العائلات التي حاولت الفرار. وأسفر الهجوم عن مقتل أكثر من 5000 شخص في غضون دقائق معدودة، معظمهم من النساء والأطفال، فيما تعرض حوالي 10,000 شخص لحروق شديدة وتشوهات دائمة

الموت والعذاب في الشارع
أفاد الناجون بأن الغاز المنبعث كان تفوح منه رائحة التفاح، وأن الضحايا ماتوا بطرق مختلفة، مما يدل على استخدام مزيج من المواد الكيميائية السامة. في ذلك اليوم سقط البعض ميتاً على الفور، بينما مات آخرون من شدة الضحك، وتعرض آخرون لحروق شديدة وطفح جلدي قبل أن يفقدوا حياتهم. كما عانى بعضهم من نوبات سعال حادة وتقيؤ سائل أخضر قبل الوفاة، في حين أصيب آخرون بالعمى. ويشير الباحثون إلى أن هذه المواد الكيميائية لم تنتقل فقط عبر الماء والتربة إلى الأجيال القادمة، بل أدت أيضًا إلى ارتفاع معدل التشوهات الوراثية بين حديثي الولادة في المدينة
لم تقتصر آثار الأسلحة الكيميائية على البشر فقط، بل شملت الحيوانات أيضًا؛ فقد أصيبت الماعز والأبقار بانتفاخ في بطونها، وانحرفت عن مسارها وسقطت ميتة بأطراف مشدودة ومنبثقة
قمتُ بزيارة مدينة حلبجة بنفسي في عام 2008 لإعداد تقرير لقناة أردنية كردية تبث باللغة العربية. وخلال تلك الزيارة، شعرت برائحة التفاح تحيط بي بعد أن سمعت التقارير المروعة للناجين الذين تعرضوا للتشويه نتيجة الهجوم الكيميائي

التطهير العرقي من خلال عملية أنفال
وقع هجوم الغاز السام على حلبجة ضمن عملية عسكرية ضد الشعب الكردي في وطنه، إذ رأى النظام العراقي في الأكراد تهديدًا لحكمه. وقد عُرفت العملية باسم “أنفال” – نسبة إلى السورة الثامنة من القرآن الكريم التي تعني “الغنائم” وتتناول تقسيم الغنائم عقب معركة بدر التاريخية في العام الثاني للهجرة النبوية، أي هجرة النبي محمد من مكة إلى المدينة
وكانت هذه الحملة جزءًا من الصراع المستمر بين الحكومة العراقية والأكراد الذين كانوا يسعون إلى نيل الاستقلال. وقد أدت العملية الهادفة إلى “التطهير العرقي” إلى تدمير أكثر من 4000 قرية كردية وتهجير سكانها. كما تم تنفيذ عمليات إعدام جماعية دفنت فيها الضحايا في مقابر جماعية. وتم احتجاز عشرات الآلاف من الأكراد في معسكرات اعتقال كانوا يعيشون فيها تحت ظروف غير إنسانية. وتشير التقديرات إلى أن حوالي 180,000 شخص – بينهم نساء وأطفال – لقوا حتفهم نتيجة حملة أنفال
كان علي حسن المجيد، أحد المسؤولين البارزين في حزب البعث وابن عم الرئيس العراقي صدام حسين، يُعتبر المسؤول الرئيسي عن مذبحة حلبجة، وقد لُقب بـ”علي الكيماوي” نظرًا لدوره في الهجوم الكيميائي، وحُكم عليه بالإعدام بعد سقوط النظام

دور الشركات الألمانية في تزويد البنية التحتية لإنتاج الغاز السام
كما يوجد دورٌ لألمانيا في هجوم الغاز السام على حلبجة. ففي عام 1988 تركزت الأدلة على أن العراق قد استورد جزءًا كبيرًا من المواد الكيميائية والبنية التحتية اللازمة لتطوير أسلحة الكيمياء من شركات غربية – وعلى رأسها الشركات الألمانية. وقد تجاوزت العديد من المكونات الكيميائية أو الصناعية التي قدمتها الشركات الألمانية الفحوصات المفروضة على الصادرات هذه المكونات استُخدمت للأسف في بناء واحدة من أكبر منشآت الأسلحة الكيميائية في العراق وفي العالم تحديداً في مدينتي سامراء والفلوجة. وقد جادل ممثلو الشركات المتهمة بأن المنشآت والمواد التي تم توريدها كانت مخصصة لإنتاج المبيدات لحماية محصول النخل العراقي. وتم تقديم ممثلي هذه الشركات إلى المحاكمة بتهمة مخالفة قانون التجارة الخارجية فقط، وليس بتهمة المساعدة في الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية. كما حُكم على رجل أعمال هولندي متورط في القضية في هولندا بتهمة شراكته في ارتكاب جرائم حرب
وفي 5 أبريل 1991، أقر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 688 الذي فرض منطقة حظر جوي على العراق. وقد كان لهذا القرار تبعات واسعة النطاق وأدى في نهاية المطاف إلى نشوء إقليم كردستان المستقل عن الحكومة المركزية في بغداد
بعد أكثر من 37 عامًا على هذه الكارثة، لا تزال حملة أنفال ومذبحة حلبجة جرحًا مفتوحًا في الذاكرة الجماعية للأكراد رمزًا للمقاومة والإصرار
لمزيد من المعلومات التفصيلية، يمكن الرجوع إلى وثائقي أصدره مركز التاريخ العسكري والعلوم الاجتماعية التابع للجيش الوطني الألماني من خلال الرابط التالي
Tod in der Luft. Der Giftgasangriff auf Halabdscha am 16. März 1988
tun25020402