18. أكتوبر 2025

مدخل متحف حلب الوطني: شاهد على الحضارات القديمة والدمار الحديث

يوسف كنجو

يُعدّ مدخل المتحف الوطني في حلب أحد أبرز المعالم المعمارية والثقافية للحضارة السورية القديمة. فهذا المدخل، بتصميمه المهيب وتماثيله الضخمة، لا يؤدي وظيفة معمارية فحسب، بل يُعدّ بوابة رمزية لتاريخ غني بالحضارات والإبداع الفني والديني
المدخل هو نسخة عن واجهة قصر الملك الآرامي كابارا في تل حلف (القصر الغربي)، والذي يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد. ويتكوّن الجزء الأوسط من الواجهة من ثلاث تماثيل ضخمة تمثل مجمع الآلهة السورية وهي: التمثال في الوسط يمثّل إله الطقس والعواصف (حدد أو تيشوب)، وعلى اليسار تمثال للربة عشتار، إلهة الحب، وعلى اليمين تمثال لابنهما شرما. وتقف هذه التماثيل على ثلاثة تماثيل أخرى لحيوانات: أسد على كل جانب، وثور في الوسط. يبلغ ارتفاع المدخل 8 أمتار، وعرضه 14 مترًا

وكان القدماء يعتقدون أن الوظيفة الرئيسية لهذه الآلهة هي حماية المكان، ولا سيّما المعابد والقصور، من دخول الأرواح الشريرة
يحيط بالتماثيل إطار على شكل جدار من الأعلى واليمين واليسار. ويوجد على جانبي المدخل عدد من التماثيل، تشمل تمثالًا لأبو الهول (سفنكس)، وأسدًا، ومجموعة أخرى من التماثيل. وقد اكتُشف في الموقع نحو 178 تمثالًا، كانت تزين الجزء السفلي من الجدار الخارجي للقصر على كلا الجانبين للمدخل

تاريخ بوابة متحف حلب
لقصة ظهور هذه البوابة وتماثيلها أمام متحف حلب تاريخ طويل ومثير للاهتمام، يحمل أبعادًا أثرية وسياسية أيضًا
يقع تل حلف في شمال شرق سوريا، بالقرب من بلدة رأس العين في محافظة الحسكة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في منطقة الجزيرة السورية. يعود تاريخ أقدم مستوطنة في تل حلف إلى الألفية السادسة قبل الميلاد، حيث تم اكتشاف أحد أقدم أنواع الفخار في التاريخ، المعروف اليوم باسم فخار حلف
وفي هذا الموقع، تأسست مدينة جوزانا، عاصمة مملكة بيت بحياني الآرامية، في القرن العاشر قبل الميلاد تقريبًا

عالم الحفريات الألماني ماكس فون أوبنهايم
اشتهر هذا الموقع الأثري بفضل اكتشافات عالم الآثار والدبلوماسي الألماني ماكس فون أوبنهايم (1860–1946). في عام 1899، عندما كانت المنطقة لا تزال جزءًا منالإمبراطورية العثمانية، سافر أوبنهايم من القاهرة إلى شمال بلاد ما بين النهرين كممثل للبنك الألماني، حيث كان يجري العمل على إنشاءسكة حديد بغداد. وفي طريقه إلى هناك، اكتشف تل حلف في 19 نوفمبر، بعد أن أخبره القرويون بوجود تماثيل حجرية مدفونة تحت الرمال. وخلال ثلاثة أيام فقط، تم الكشف عن عدد من القطع الأثرية المهمة، بما في ذلك ما يُعرف بـ “الإلهة الجالسة
كما أسفرت أعمال التنقيب الاستكشافية عن الكشف عن مدخل ما يُسمّى “القصر الغربي“. ونظرًا لعدم امتلاكه تصريحًا قانونيًا للتنقيب، أمر أوبنهايم بإعادة دفن التماثيل، ثم واصل رحلته
بعد عشر سنوات، عاد إلى تل حلف، وأجرى حفريات واسعة النطاق في الفترة الممتدة من 1911 إلى 1913. وفي عامي1927 و1929، حين كانت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، واصل أعمال الحفر، واكتشف تماثيل وبقايا معمارية مدهشة، ولا سيّما القصر الملكي، والمعبد، والبوابات المزينة بتماثيل ونقوش بارزة مصنوعة من حجر البازلت، تُصوّر مشاهد دينية وحربية. ويُرجّح أن هذه الآثار تعود إلى الفترةالآرامية (من أواخر القرن العاشر إلى أوائل القرن التاسع قبل الميلاد)

رحلة المكتشفات إلى برلين
نُقلت التماثيل المكتشفة في تل حلف، والتي شكّلت مجموعة أثرية يزيد عددها على 2000 قطعة ما بين تماثيل وكسَر أثرية، إلى برلين على يد ماكس فون أوبنهايم، بعد انتهاء الحفريات التي أُجريت في بداية القرن العشرين، وتحديدًا عام 1913، وذلك بزعم حمايتها من التدمير. كانت عملية النقل معقّدة وصعبة، ليس فقط بسبب حجم ووزن المنحوتات، والظروف الجغرافية واللوجستية الصعبة في ذلك الوقت، بل أيضًا لأنها جرت بسرّية، إذ لم تمنح السلطات العثمانية تصريحًا رسميًا بنقل هذه الآثار إلى برلين
تم نقل القطع الأثرية من شمال سوريا باستخدام الجِمال والسكك الحديدية إلى موانئ مثل بيروت أوالإسكندرونة، ثم عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أحد الموانئ الألمانية. وبعد وصولها إلى برلين عام 1930، عُرضت هذه القطع في متحف خاص أسّسه أوبنهايم، أُطلق عليه اسم متحف تل حلف، وكان يقع في مبنى قديم مهجور لمصنع آلات، وذلك لأن متحف بيرغامون، الذي كان قائمًا آنذاك، لم يكن قادرًا على استيعابها أو عرضها
في الوقت نفسه، تم تأسيس المتحف الوطني في حلب، والذي يضم مجموعة مهمة من تماثيل تل حلف، وإن كانت أقل عددًا من تلك التي نُقلت إلى برلين. بعض هذه التماثيل أصلية، وقد تم العثور عليها في الحفريات التي أُجريت عام 1929، وبعضها الآخر نُسخ عن التماثيل الأصلية المعروضة في برلين. تُعرض هذه القطع في قسم مخصص للآثار السورية من العصر الآرامي، ويُعدّ من أبرز أقسام المتحف. ومن بين القطع الأكثر أهمية: تمثال الإلهة عشتار، وتمثال الرجل العقرب، وقرص الشمس المجنّح الذي يُعتقد أنه يُمثّل إنكيدو وجلجامش

التدمير في الحرب العالمية الثانية والحفريات الأثرية الحديثة
في عام 1943، تعرّض متحف تل حلف في برلين للقصف خلال غارة جوية أثناء الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى تدمير جميع التماثيل، وتحطُّمها إلى نحو27,000 قطعة. ومع ذلك، وضمن مشروع ترميم واسع النطاق بدأ عام 2001 واستمر حتى عام 2010، تمكّن فريق ألماني من إعادة تجميع وترميم أكثر من 30 منحوتة ونقشًا من بقايا الحجارة المحطّمة، والتي يمكن مشاهدتها اليوم فيمتحف بيرغامون في برلين
عندما تم إنشاء مبنى جديد للمتحف الوطني في حلب عام 1966، تم اختيار بوابة القصر كمدخل رئيسي له، باعتبارها رمزًا مهمًا للحضارة السورية القديمة، وخصوصًا الفترة الآرامية، التي تمثل أحد المحاور الأساسية للمتحف. وقد تم اختيار تصميم المدخل بعد مسابقة دولية، نظرًا لملاءمته لمحتوى المتحف، ولقيمته السياسية والدينية الكبيرة. وقد تم استخدام نسخ من التماثيل الأصلية التي نُقلت إلى برلين
تعرّض متحف حلب لأضرار جسيمة خلال الحرب في سوريا، وكذلك خلال زلزال عام 2023، لكن منحوتات تل حلف بقيت بمعظمها سليمة، باستثناء المدخل، الذي تضرّر بشدة بفعل القذائف والزلزال، لكنه ما زال قائمًا، ويحتاج إلى ترميم عاجل
وبعد توقف دام 77 عامًا، استأنف فريق سوري–ألماني مشترك، من المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق، والمعهد الألماني للآثار في برلين، بالتعاون مع جامعات هاله وميونيخ وتوبنغن، أعمال الحفر في تل حلف عام 2006. لكن هذه الحفريات توقفت مجددًا عام 2011 بسبب اندلاع الحرب في سوريا

في أي المتاحف يجب أن تُعرض الآثار الهامة؟
بسبب الحروب المتكررة في الشرق الأوسط، يرى كثيرون أن من الأفضل نقل مقتنيات المتاحف من هذه المنطقة إلى أوروبا حفاظًا عليها. لكن تدمير آثار تل حلف في برلين خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك تدمير العديد من المتاحف الأوكرانية خلال الحرب الروسية الأوكرانية، يُظهر بوضوح أنه لا يوجد مكان آمن تمامًا لمقتنيات المتاحف. فدائمًا ما يوجد تهديد محتمل، سواء كان ذلك بسبب الحروب أو الكوارث الطبيعية
لقد أصبحت مقتنيات المتاحف القادمة من الشرق الأوسط، أو من مناطق أخرى مثل اليونان ومصر، جزءًا أساسيًا من معروضات المتاحف الأوروبية الكبرى، مثل متحف اللوفر والمتحف البريطاني. ومع ذلك، يدور اليوم نقاش مكثف حول ما إذا كان يجب إعادة هذه المقتنيات إلى بلدانها الأصلية، أو الإبقاء عليها في المتاحف الغربية باعتبارها “حماة للتراث العالمي”
إن مدخل متحف حلب، أو ما يُعرف بـبوابة قصر كابارا، لا يُمثل فقط تاريخ سوريا القديم، بل يعكس أيضًا فصلًا معقدًا من العلاقات الثقافية المتشابكة بين سوريا وألمانيا. فعندما قامت البعثات الألمانية بالتنقيب في تل حلف، وجدت نفسها تحمل معها أجزاء من الهوية الثقافية السورية، التي توزّعت اليوم بين المتاحف الدولية
وقد أصبحت هذه الآثار رموزًا للنضال من أجل الهوية الثقافية والملكية، خصوصًا بعد ما تعرضت له المواقع الأثرية من تدمير ونهب خلال الحرب

tun25071506

www.tuenews.de/ar