سمير إبراهيم، علا محفوظ، وميشائيل سايفرت
يُقدّر عدد الحمير حول العالم بحوالي 50 مليون حمار، يعيش معظمها في البلدان الفقيرة. وتشير أحدث نتائج الأبحاث إلى أن الحمير المستأنسة اليوم تعود في أصلها إلى الحمار البري الإفريقي الذي تم استئناسه قبل نحو 7200 عام في الجبال الجافة لشمال شرق إفريقيا (مصر، السودان، إثيوبيا، إريتريا). إلا أن البيانات المتوفرة حول هذا الموضوع ليست وفيرة، ولهذا يفترض بعض الباحثين أن الحمار المستأنس قد يكون قد نشأ أيضاً في بلاد الرافدين، في منطقة نهري الفرات ودجلة، حيث تم استئناس الأبقار والأغنام والماعز أيضاً لأول مرة.
بالنسبة لإنسان العصر الحجري الحديث، كان الحمار حيواناً وسيلة نقل مهمة، وقد استُخدم في أقدم العلاقات التجارية بفضل قدرته العالية على التحمل.
يحظى الحمار بتقدير كبير في العديد من الثقافات، مثل الحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين ومصر، وكذلك في بعض الثقافات الإفريقية والآسيوية. ويلعب دوراً خاصاً جداً لدى الشعب الكردي في العراق.
الحمار، رفيق الحياة اليومية والمقاومة الكردية الصامت
لدى الأكراد في شمال العراق قول مأثور متجذر في وجدانهم الجمعي: “ليس لنا صديق سوى الجبال”. ومن نضالات الحرية الكردية المختلفة عُرف كثير من الأسماء، لكن بطلاً واحداً ظل مجهولاً، بقي في الظل، يؤدي دوره بهدوء دون تفاخر: إنه الحمار – هذا الكائن المتواضع الذي حمل على ظهره “أحلام الثورة وهمومها” عبر الجبال.
لا يُنظر إلى الحمار لدى الأكراد كرمز للغباء كما في بعض الثقافات، بل يُعد رمزاً للبساطة، الصبر، والإخلاص. ويعتبره كثير من سكان القرى رفيق درب لا غنى عنه، مساوٍ للإنسان في القيمة.
في مرتفعات الجبال الكردية، كان الحمار يعرف الطريق حتى عندما كانت كل السبل مغلقة. حمل الأسلحة والمؤن والطعام إلى مواقع مقاتلي الحرية في ظروف لا تُطاق. تحدى البرد والجوع بصبر. لم يكن يحتاج إلى خريطة فقد كانت البوصلة في حوافره. وبما أنه لا يُصدر ضجيجاً، كان مثالياً للمهام السرية. تحرك بصمت، وكأنه يعلم أن أي صوت قد يكلّفه حياته فاختار الصمت.

الصورة: بريجيت غيزل.
تمثال لحمار في كردستان
ورغم كل هذه التضحيات، بقي الحمار منسياً. إلا أن هناك تمثالاً برونزياً لحمار في مدينة السليمانية، إحدى أكبر مدن كردستان العراق ومركزاً للثقافة والتعليم. يُظهر التمثال رأس الحمار وكتفيه وجزءاً من صدره، مرتدياً بدلة وقميصاً وربطة عنق. يمثل التمثال شعار حزب “حزب الحمار”، الذي تأسس عام 2005 كرد فعل ساخر على الفساد السياسي والانحراف عن المبادئ الديمقراطية. واختار الحزب الحمار رمزاً للصدق والصبر. وكما قال مؤسس الحزب عمر كلال: “لماذا نخجل من الحمار؟ إنه حيوان طيب، يعيش بسلام، لا يقتل، لا يخون، لا يسرق… أليس من حقه أن يكون رمزنا؟”
كان الحمار، الذي استخدم في الحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين كوسيلة للنقل، لا يزال يلعب دوراً حاسماً في بناء المنازل حتى أواخر القرن التاسع عشر في المدينة القديمة ببغداد، كما يروي عضو هيئة التحرير سمير إبراهيم: “الأزقة الضيقة لم تكن تسمح بدخول الآلات الكبيرة. فصار الحمار مهندس النقل ولولاه لما وصلت الطوب، ولا بُني سقف”.
“حمار” كشتيمة في وسط أوروبا
يختلف الأمر تماماً في أوروبا الوسطى: فهناك يُستخدم وصف “حمار” كإهانة. وهذا له جذور تاريخية طويلة: فقد استخدم المصطلح كدلالة على الغباء منذ العصور الرومانية في مسرحيات تيرينس وبلوتوس، كما ظهر في أقدم النصوص الأدبية باللغة الألمانية.
وهناك العديد من الأمثال والتعابير المماثلة في الفرنسية، الإنجليزية، ولغات أخرى، مثل: “هناك الكثير من الحمير تمشي على قدمين”، و”تعليم الأحمق كتعليم الحمار القراءة”، وغالباً ما يُوصف الشخص العنيد بأنه “عنيد كالحمار”.
وقد نُسي اليوم أن الحمار كان يُستخدم كأداة للعقاب في العصور الوسطى: “ركوب الحمار بالمقلوب”. وكان من المتعارف عليه في إحدى المدن الفرنسية أن يُجبر الأزواج الذين يتعرضون للضرب من زوجاتهم على الركوب مقلوبين على الحمار، بحيث تكون وجوههم باتجاه ذيله. كما كان في مدارس الأديرة الخشبية يُجبر الطلاب على الجلوس على حمار خشبي كعقوبة.

الحمار في الحكايات الحيوانية والكتاب المقدس
استخدم الكاتب الفرنسي جان دي لا فونتين الحكايات الحيوانية في القرن الثامن عشر لنقد سلوك البشر بشكل غير مباشر، ما مكنه من الإفلات من الرقابة في عصر الملكية المطلقة. وقد استخدم الحمار عدة مرات، كما في الحكاية الشهيرة “الحمار وأسياده”، حيث يشكو الحمار من أن عمله مع الفلاح يوقظه قبل الفجر، فيتم تغييره بسيد آخر – دبّاغ – يُجبره على حمل جلود ثقيلة كريهة الرائحة، ثم يتذمر ثانية عندما يُرسل إلى عامل الفحم… في النهاية يقول لا فونتين: “كل الناس هكذا. لا نفرح أبداً بحالنا”.
ويفاجئنا هذا التصور السلبي للحمار في الثقافة الأوروبية الوسطى، إذ أن الحمار يُصوّر في الكتاب المقدس بشكل إيجابي. ففي العهد القديم، كانت أتان النبي بلعام أكثر حكمة منه وأنقذته من الموت رغم أنه كان يضربها باستمرار (سفر العدد 22:21 وما بعدها). وفي العهد الجديد، يُقال إن الحمار كان حاضراً عند ولادة المسيح، وحمله هو وأمه في رحلتهما إلى مصر. كما دخل يسوع القدس راكباً على حمار، في بداية أسبوع آلامه. ولهذا يُعتبر الحمار في اللاهوت المسيحي رمزاً للسلام.

الحمار في الإسلام – في القرآن والسنة
يُذكر الحمار في الإسلام في مواضع مختلفة من القرآن الكريم والسنة النبوية. وتتناوله المصادر الإسلامية كحيوان نافع خلقه الله، دون تحقير أو سخرية.
ذكر الحمار في عدة مواضع من القرآن، منها:
“ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا” (سورة الجمعة 62:5). هنا يُستخدم الحمار كتشبيه لأشخاص يمتلكون علماً لا يفهمونه أو لا يطبقونه، دون أن يكون القصد إهانة الحمار، لأن من الطبيعي ألا يستطيع الحمار قراءة الكتب.
وفي آية أخرى يقول لقمان لابنه:
“ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير” (لقمان 31:19). هذه وصية أخلاقية تدعو للهدوء والوقار، ولا يقصد بها ذم الحمار، بل ذم رفع الصوت بأسلوب مزعج.
ومن المأثور أن النبي محمد ﷺ ركب الحمار كوسيلة نقل بسيطة، دون أن يرى في ذلك ما يخلّ بمكانته. وقد ورد أن حماره كان يُسمى “يعفور”، ويُحتمل أن معناه “الغزال الذكر” أو “الخفة والسرعة في الحركة”. وقد دعا النبي إلى الرفق بالحيوانات، ونهى عن ضربها أو تحميلها ما لا تطيق، وهذا يشمل الحمير أيضاً.

التقاليد الشعبية العربية
في النصوص الدينية الأصلية، لم يُستخدم الحمار أبداً كرمز للغباء أو السخرية، بل كانت له وظيفة واضحة ومفيدة. إلا أن الصورة السلبية له بدأت لاحقاً في الأدب الشعبي الشفهي، والحكايات والأمثال، حيث ارتبط بالعناد أو السذاجة، دون أن يكون لذلك أصل في القرآن أو السنة.
جحا : شخصية فكاهية مشهورة في التراث العربي الإسلامي، تُستخدم حكاياته ونوادره لتوصيل حكم اجتماعية أو رسائل نقدية. وتعود أقدم الروايات عنه إلى القرن الثامن الميلادي. واشتهر جحا بشكل خاص بقصصه المضحكة مع حماره. لم يكن الحمار موضع سخرية، بل كان عنصراً كوميدياً يعكس تصرفات البشر. ولكن بسبب ظهوره المتكرر في مواقف فكاهية، ترسخت صورة الحمار في المخيلة الشعبية كحيوان بسيط أو أحمق.
تُظهر نتائج بحثنا أن الحمار نال التقدير والاحترام في الثقافات القديمة وحتى في النصوص الدينية، باعتباره حيواناً نافعاً له دور أساسي في حياة الإنسان. لكن في الثقافة الشعبية، تحول إلى أداة للإهانة أو وسيلة غير مباشرة لانتقاد سلوك البشر. ويبقى الحمار بطلاً مكرّماً في ذاكرة الشعب الكردي شمال العراق.
tun25061709